Tuesday, March 14, 2017

تأخر نطق أم توحد؟

الأطفال مختلفين في نموهم وتطورهم وشخصياتهم”  هذا ما كنت أُحدث نفسي به كلما لاحظت فرق اللغة بين ابني سيف وبين من هم في سنه من أقرباءه، وصادف أنهن جميعاً إناث؛ والمعروف أن تطور الإناث اللغوي والعاطفي أسرع من أقرانهن الذكور. عندما أتمّ سيف عامه الثالث اكتشفت أن ذلك الفارق قد توسّع، وبدأت ألاحظ بجانب نقص لغته عدد من السلوكيات التي لم أصادفها من قبل؛ سواء في تجربتي القصيرة مع ابني البكر الذي توفي قبل ولادة سيف بأشهر، أو مع أطفال إخوتي وأخواتي. 


ماذا كان يحدث مع سيف؟


في البدء، سيف كان طفلاً هادئاً ومريحاً، تواصله كان طبيعياً وعادياً، حتى أنجبت أخيه محمد وانشغلت بالمولود عنه، عندها كان عمر سيف أقل من السنتين بقليل. في تلك الفترة أدمن سيف على مشاهدة اليوتيوب باستخدام الآيباد في جميع الأوقات، وقد كان يشاهد المقاطع التعليمية بشكل رئيسي وبعض مقاطع الألعاب الصغيرة. تجربتي السابقة مع أخيه المتوفي الذي شاهد الكثير من مقاطع اليوتيوب كانت أنها علمته الحروف والألوان والأشكال وحتى الكتابة، لذلك لم أعر كثير اهتمام لإدمانه هذا بل اعتقدت أنه سيستفيد منه. لكن للأسف بدأ سيف بالتغير، تغيرات تدرجت في الظهور لم ألاحظها فعلياً إلا بعد أن زادت حدتها. أهم هذه الأعراض:
  • عندما أحدثه لا ينظر لي مباشرة بل ينظر إلى الأعلى.
  • لا يستجيب للنداء، ولا يلتفت عند سماع اسمه، ولا يرد على الأسئلة إلا في أحيان قليلة.
  • لم يكن ينادي أي شخص، ولا حتى أنا. 
  • كان يتواصل بشكل رئيسي بالبكاء وإمساك يدي وأخذي إلى المكان الذي يرغب منه شيئاً ثم عليّ أنا تخمين ما يريده، فإما أن يكون تخميني صحيحاً وإما أن أواجه ساعة من البكاء المتواصل، لذلك كان التعامل معه ومعرفة ما يرغب فيه تحدياً حقيقياً. 
  • في السابق كان يتواصل بعدة مفردات أولية، لكن قل استخدامه لها بالتدريج واستعاض عنها بالبكاء فقط.
  • يفضل اللعب لوحده بألعاب معينة، غالباً تعليمية.
  • ليس لديه إحساس بالخطر بشكل واضح، مما جعلني طوال الوقت في حالة قلق عليه، قلق من أن يخرج للشارع (وقد فعلها)، قلق من أن يحشر نفسه تحت السيارات، قلق من أن يركض ويؤذي نفسه.  
ما سبب لي ارتباكاً في معرفة إن كان يعاني من خطبٍ ما أن ما كان يشاهده في اليوتيوب علمه الكثير من مفردات الأحرف والألوان والأشكال التي إن سألته عنها أجاب بوضوح! كانت لديه حصيلة كبيرة من الكلمات ومستوى ذكاء وحفظ عالٍ، لكن بدون توظيف. 

شعرت وقتها بالعجز والحيرة،ما قرأته من كتب التربية كان صعباً تطبيق أساليبها مع طفل لا أستطيع التواصل معه. كنت تائهة. كنت جاهلة بمجال سلوك الأطفال وصعوبات التعلم والاحتياجات الخاصة بشكل كبير، جهل ألوم نفسي عليه طوال الوقت، كيف رغم قراءاتي وإطلاعي وبحثي الدائم أكون جاهلة بحالة ابني! لم أكن أعرف ماذا علي أن أفعل ومن أين أبدأ وماذا يحدث أصلاً! وما جعل الأمر أسوأ أن من حولي كانوا يهونون من الأمر ويكررون علي مسمعي أمثلة لأطفال لم يتحدثوا في طفولتهم حتى عمر معين ومن ثم فتح الله عليهم وانطلقوا في الحديث! كنت في حيرة بين ما أعانيه معه، وبين ما يُقال لي وبين إحساسي بأن هناك مشكلة فعلية. حاولت الاقتناع بأن ما يعاني منه سببه عدم وجود أطفال يلعب معهم في المنزل، فقررت إلحاقه بحضانة عندما أتم الثلاث سنوات. كان هذا القرار أفضل ما فعلته على الإطلاق، لأنني التقيت في الحضانة بأم لطفل سلوكه يشبه سلوك سيف بشكل واضح، وكانت هي من وضعتني على بداية طريق كشف المشكلة والعلاج. كانت قد عرضت طفلها على عدة مراكز واختصاصين أغلبهم شخّص حالته بأن لديه ”سمات توحد”، وهي حالة كما قالت بين الطفل الطبيعي والطفل الذي لديه اضطراب التوحد.

بداية التعرف على المشكلة


بدأت رحلة اكتشاف حالة سيف بفضل هذه الأم التي هي صديقتي حالياً. كانت أول عيادة للنطق أزورها مع سيف عيادة خاصة لم أعرف غيرها، فكان سهلاً الحصول على موعد ومقابلة الدكتورة التي قامت بالكشف واقترحت إلحاقه بجلسات لديهم. شخصوا حالته بعد أسبوعين من الجلسات بـ “تأخر في النطق” فقط، مع تلكؤ في تحديد إن كان لديه سمات توحد أو لا، وعلاجه كما اقترحوا جلسات مكثفة مع اختصاصية نطق. فبدأ سيف علاجه معهم وكان عمره حوالي الثلاث سنوات وبضعة أشهر، بجانب ذهابه للحضانة. كان هناك في البداية تقدم جيد في نطقه وتواصله، وتعلمت عن طريق الاختصاصيات كيف أتواصل معه وكيف أستطيع معرفة ما يرغب فيه وما هي النقاط التي بإمكاني تحسينها لديه من خلال التعامل اليومي. اعتقدت أنه صارت لدي صورة أوضح عن حالته حينها لأن بعض الأمور قد تسهلت نوعاً ما. بعد حوالي ٦ أشهر من الجلسات المتواصلة صار تقدم سيف ثابتاً، ولم تكن هناك فائدة جديدة للجلسات التي صارت مجرد تكرار لذات التقنيات وذات التمارين، وباختصار استنزاف للمال والجهد بدون أن تزيد من تحسّنه، وبدون أن تنقله لمراحل تواصل أعلى.  

عندما حان وقت التسجيل في الروضة، كنت متفائلة بدون مبرر بأنه بإمكاني إلحاقه بأي مدرسة. كنت متأكدة تماماً بأنه متقدم أكاديمياً (وكان هذا مذكور في تقرير الحضانة والمركز) رغم تأخره الاجتماعي واللفظي وهذا سيشفع له عند القبول. لكن للأسف تعرضت للإحباط من عدة مدارس، إحداها قابلته لمرتين ثم ترددوا في قبوله، ثم طلبوا عدة تقارير: تقرير طبي كان أسهل ما في الموضوع، وتقرير من العيادة التي تعالجه، وهذا استصدرته ثلاث مرات في كل مرة كان أسوأ من قبلها. لاحظت أن عيادة النطق هذه كانت قليلة الاحترافية من الجهة الإدارية، فالتقارير كانت ركيكة، وغير مفيدة للمدرسة على الإطلاق. والمفاجئ في التقارير أنها تذكر “سمات التوحد” في خانة المشكلة هكذا عائمة بدون توضيح ما هي هذه السمات، وهذا ليس التشخيص الذي قالوه لي وجعلوني أصرف الكثير في سبيله. ثم طلبوا مني تقريراً رسمياً من مؤسسة زايد العليا للرعاية الإنسانية وذوي الاحتياجات الخاصة. وهذه المؤسسة رغم الكفاءات التي تعمل لديها إلا أنها فاشلة من ناحية التواصل، فقد استلزمني الأمر عشرات وعشرات المكالمات لأرقام لا أحد يرد عليها وعدة زيارات حتى وُفقت في تحديد موعد للفحص. رغم استيائي من أسلوب المؤسسة في التواصل إلا أن علي الاعتراف بأن عملية الكشف والتشخيص كانت على مستوى من الاحتراف، والعاملين هناك متعاونين وسلسين في التعامل المباشر مع الأم ومع الطفل. خلال يوم الفحص تم فحص السمع والنظر والصحة العامة ثم عرضوا سيف على اختصاصي علاج طبيعي ثم اختصاصي علاج وظيفي واختصاصية علاج نطق وفي الأخير اختصاصية نفسية، وكشف الأخيرة كان يحتاج لعدة جلسات مع سيف ومعي لأخذ تاريخه بالكامل. من خلال الحوار مع تلك الاختصاصية النفسية ساعدتني كثيراً على فهم سيف وفهم التوحد وفهم الوضع بأكمله. في النهاية وبعد مرور شهر من التشخيص تم إصدار التقرير الشامل والمفصل لحالة سيف. وقتها بالطبع كان قد فات تسجيل المدرسة التي أردتها له، واضطررت لتسجيله في روضة حكومية (وبتدخل) ليتم قبوله. 

التشخيص الأخير 


تقرير مؤسسة زايد هو ما جعل الصورة تتضح أمامي أخيراً. حسب التقرير فإن سيف يعاني من “اضطراب طيف التوحد” بدرجة خفيفة، ويحتاج لعلاج وظيفي لزيادة التركيز والانتباه بجانب علاج النطق. لحظة إمساكي للتقرير شعرت بأنني أخيراً وضعت يدي على المشكلة وفهمتها. حينها شعرت بالغبن تجاه التخبط في التشخيص والتأخير الغير مبرر والسنة التي ضاعت في علاج غير موفق. “التركيز والانتباه” كم تبدو هاتان الكلمتان بديهيتان في حين أنهما أساس العلاج كله، ففي البدء يجب الاهتمام برفع مستوى انتباهه وتركيزه وتواصله البصري أما اللغة والسلوكيات يأتيان لاحقاً مع تحسن التركيز.  
لا زال أمام سيف الكثير من الوقت والجهد حتى يستطيع التواصل بسهولة والتعبير عن نفسه وحاجاته بطريقة طبيعية، لكنه على الطريق. لا يهمني مسمى حالته ولا المدة التي يحتاجها للعلاج قدر ما يهمني أن يتجاوز هذه المرحلة من حياته ويضع قدمه على الطريق الطبيعي، ومتأكدة تماماً أن سيف لن يكون أفضل حالاً فحسب بل سيكون الأفضل بين جميع أقرانه. 


لماذا لا يعرف الشخص العادي عن أعراض التوحد وتأخر النطق؟


أحد أهدافي من سرد تجربة سيف أعلاه هو التوعية بعلامات اضطراب طيف التوحد وبوادر صعوبات التعلّم. شخصياً لو كان لدي أدنى فكرة عن مشكلة سيف في بداية ظهورها لاستطعت اختصار الكثير من الوقت، ولا يهمني الجهد ولا المال. لأن في هذه الحالات الوقت هو المفصل، فكلما تم التدخل مبكراً كلما تداركت المشكلة واستطعت إعادة الطفل إلى الطريق الطبيعي في التواصل مع محيطه والتعبير عن نفسه واحتياجاته. صحيح أن هناك الكثير من الحسابات والمواقع والجهات المختصة بهذا المجال إلا أنها لا تصل للجميع، لا تصل للفرد الذي لم يحتج للقراءة يوماً عنها ولم يصادف حالاتها في محيطه العائلي. لماذا نعرف معلومات أولية عن السرطان والسكري وأهمية التطعيم مثلاً ولا نعرف عن التوحد وصعوبات التعلم؟ هناك ملصقات ومنشورات في العيادات عن هذه الأمور وهناك حملات للتوعية بها في حين أن التوحد لا يعرف عنه إلا من اختص في هذا المجال ومن لديه أو صادف طفلاً يعاني منه. ربّ معلومة صغيرة وعابرة يقرأها أحدهم في ملصق توعوي ما أو في وسائل التواصل الاجتماعي قد تختصر عليه الوقت والجهد في المستقبل. كنت أعتقد أنني أنا بالذات جاهلة بهذا الأمر، لكنني اكتشفت أنني لست وحيدة. وسعيدة أنه بمعرفتي المحدودة هذه استطعت أن أوجه عدة أمهات للكشف على أطفالهن بالأسلوب الصحيح من البداية وفي عمر مبكر بدون الدخول في متاهات الحيرة والمراكز والمستشفيات. 


كيف تعرف إن كان هناك مشكلة في سلوك طفلٍ ما؟


من خلال تجربتي الخاصة، أنصح بالانتباه لوجود بعض من العلامات التالية عند الطفل السليم ذو السنتين وأكبر (أنوه أنني لست مختصة بل أم لطفل توحد خاضت التجربة):
  • كلماته المستخدمة بشكل يومي محدودة للغاية
  • تواصله البصري ضعيف أو معدوم
  • لا يستجيب للنداء ولا يرد على الأسئلة
  • نشاطه عالي
  • لا يندمج مع بقية الأطفال ويلعب لوحده 
  • يكرر حركات بشكل نمطي: (حركة أصابع اليدين، القفز، الدوران أو الركض من نقطة إلى نقطة بشكل متكرر)
  • يضرب أو يعض نفسه عند الغضب
  • يصرخ بصوت حاد
  • يغلق أذنيه عند سماع أصوات عالية
تأخر النطق والتوحد الخفيف واضطرابات أخرى لها أعراض متداخلة للغاية، لذلك في حالة الشك وعدم التأكد من وجود هذه الأعراض أو ربما تظهر وتختفي فإن زيارة طبيب أطفال نفسي أو اختصاصي تربية خاصة أو اختصاصي نطق هي أفضل ما يمكن فعله. أنصح وأشددّ بأن لا تعتمد أي تشخيص يقوله لك أي اختصاصي بعد جلسة واحدة فقط! وأفضل شخصياً أن يتم اللجوء لمؤسسة زايد العليا من البداية، لأن فحوصاتهم شاملة وأدق وتقريرهم معتمد من أغلب الجهات والمدارس. 

في النهاية أقول لكل من لديه طفل مثل سيف: تأكد أن الأطفال الذي يعانون من هذه الصعوبات هم أطفال مميزين وأذكياء ومتفوقين للغاية. عليك أن تؤمن بأن طفلك سيكون له مستقبل باهر ورائع ولا تتهاون في بذل وقتك وجهدك ومالك عليه. استثمر فيه ولا تيأس، واصبر، ولا تصب باحباط ولا تقارنه بغيره. هذه مرحلة في حياة هذا الطفل بإمكانك أن تجعلها عابرة وبإمكانك أن تجعلها دائمة، فالقرار لك، وطفلك مسؤوليتك.  

أتمنى أن تكون في تجربتي فائدة لمن يقرأها، ومستعدة لمساعدة أي أم محتارة بقدر استطاعتي وفي حدود معرفتي البسيطة عن هذا الموضوع.  




صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب العُماني

  ثانياً: الأدب العُماني ثيمات تكررت في الأعمال العمانية:   حياة القرية، تاريخ عمان، العائلة، الاستعباد، الأمومة، الحروب المحلية، الغربة، ال...