Friday, June 26, 2020

الأخوة كارامازوف


أكبر الأعمال الأدبية في جميع الأزمان؛ مأساة أوديب لسوفوكليس، هاملت لشكسبير، الأخوة كارامازوف لدوستويفسكي، تتعرض كلها لنفس الموضوع: قتل الأب. وفضلاً عن ذلك نجد في الأعمال الثلاثة أن الدافع إلى ارتكاب ذلك -وهو المنافسة النسبية على المرأة- معروض بشكل صريح  - فرويد


لا يمكن قراءة هذا العمل الأدبي بالشكل الأمثل إلا بالقراءة عن دوستويفسكي ومعرفة تفاصيل حياته ومنعطفاتها التي ألقت بظلالها بشكل واضح على تكوين الرواية. كثير من حواشي الرواية كانت تُحيل إلى مذكرات زوجة دوستويفسكي التي علقت على كثير من التفاصيل الواردة فيها. لكنني سأتحدث هنا عن وجهة نظر أخرى في هذا العمل الأدبي وصاحبه. 


في عام ١٩٢٨ كتب سيغموند فرويد بحثاً تحليلياً* عن دوستويفسكي من خلال قراءة عملهالأخوة كارامازوف، التي يعتبرها فرويد أعظم رواية كتبت على الإطلاق. وبغض النظر عن موقفنا تجاه فرويد ونظرياته، إلا أن تحليله هذا يستحق القراءة رغم أنه قاسٍ بعض الشيء. ففي سياق تحليل فرويد للجانب الأخلاقي من شخصية دوستويفسكي (وهو ما يهم مراجعتي هنا) ذكر أنه من الصعب وضع دوستويفسكي في مكانة عالية كأخلاقيّ! الرجل اللاأخلاقي هوالذي يستجيب للإغراء بمجرد أن يشعر به في قلبه دونما تأجيلبينما الأخلاقي الذي يحجم - حتى لو تردد- في النهاية عن الانسياق وراء الإغراء. ونتذكر هنا العبارة التي قيلت في أول مشاهد الروايةعندما لا يعتقد الانسان بخلوده تصبح الجريمة مباحةأوكل شيء مباح، وردّ ديمتريسأحفظ ذلك جيداً“. وعبر الرواية نجد الصراع بين الإيمان والشك، الإيمان الذي يورث الأخلاق/الرادع/الضمير، والالحاد الذي يجعل كل شيء مباحاً طالما أنه لا يوجد حياة أخرى خالدة أو ثواب وعقاب. فرويد يأخذ على دوستويفسكي أنه شخصياً استسلم وخضع في النهاية ولم يتوصل لحل آخر للصراع الذي تجلّى في حوارات وأحداث الأخوة كارامازوف (ولا أعرف إن كانت حياته تسمح له باختيار آخر) فكتب يقول: 


لم يكن النتاج النهائي لكفاح دوستويفسكي الأخلاقي شيئاً عظيماً للغاية. فبعد الصراعات العنيفة للتوفيق بين المطالب الغريزية للفرد ومطالب الجماعة، استقرّ إلى وضع انتكاس، هو الخضوع لكل من السلطتين الزمنية والروحية؛ توقير كل من القيصر والإله المسيحي والقومية الروسية بمعناها الضيق، وهذا وضع كان يبلغه ضعاف العقول بمجهود ضئيل. وهذه هي نقطة الضعف في تلك الشخصية العظيمة. لقد قذف دوستويفسكي بعيداً بالفرصة التي أتيحت له لأن يصير معلماً للإنسانية ومحرراً لها، وجعل من نفسه أحد سجانيها.“


هل الرغبة الشديدة والجامحة في القتل تعادل الجريمة نفسها؟  هل رغبة ديمتري أو إيفان في رؤية والدهم مقتولاً تعادل أخلاقياً ارتكاب عملية القتل ذاتها؟ الرواية تجعلنا نتعاطف مع ديمتري، الجامح الآثم الغيور لكنيستحيل أن يسفك دم والدهرغم أنه كاد أن يسفك دم شخص قارب أن يكون والداً له بدون تردد، وتجعلنا نكره سمردياكوف الذي خطط ونفّذ ونفذَ بكل بساطة رغم أنه لا يختلف عن بقية إخوته في قوة رغبتهم في قتل أبيهم. بطريقة أخرى: هل اللاأخلاقية النظرية تعادل اللاأخلاقية الفعلية؟ فرويد يجيب عن ذلك قائلاًإنها مسألة لا تستحق المبالاة أن نعرف من ارتكب الجريمة فعلاً، فعلم النفس لا يهتم إلا بأن يعرف من كان يرغب في ارتكابها بكل عواطفه، ومن الذي رحب بها حينما وقعت.“  وأنا هنا أتفق معه، فهم سواء من هذه الناحية: ديمتري وإيفان وسمردياكوف. هل كان ديمتري سيتراجع عن القتل لو وجد جروشنكا هناك مع والده؟ هل كانت الأحداث ستؤول إلى ذات المآل؟ لا أعتقد. 


من يتأمل في شخصيات الإخوة سيلاحظ أن كلاً منهم يجسد جانباً من دوستويفسكي؛ أو على الأقل جانباً مرّ به في مرحلة من حياته. ديمتري يمثل الجانب المقامر الجامح الآثم، إيفان يمثل الجانب المفكّر المتشكك الذكي الرافض للإيمان، بينما إليوشا يمثل الجانب المؤمن الخيّر الحسّاس المحبوب من الجميع، ولو لم يكن هذا جانباً موجوداً بشكل واضح في دوستويفسكي  فهو جانب رغبَ فيه بشدة، ثم يسقط على سمردياكوف الجانب الصرعي (أو العصابي) وهو المرض الذي كان يعاني منه شخصياً، ومن المثير للاهتمام أنه جعل هذا الصرع وسيلة للجريمة . 


حدث آخر هام يمكننا من فهم الرواية بشكل أعمق، وهو وفاة ابن دوستويفسكيإليوشاالذي كان في عمر الثالثة وسمى باسمه بطل الرواية المحبوب. نستطيع بوضوح أن نقرأ ألم الأب على فراق طفله في عدة مواضع، منها الأم التي كانت تبكي ابنها عند الشيخ زوسيما ولم تستطع تجاوز ألم فقده، حساسية إيفان من معاملة الأطفال بشكل سادي أو لاأخلاقي وغضبه الشديد من ذلك رغم لا اكتراثه بكل شيء آخر، ثم التجسيد الأوضح لهذا الفقد عبر شخصية النقيب سينجريف وابنه المريضإيليوشا، ثاني شخصية تحمل اسم الابن الفقيد.  


من المعروف أن دوستويفسكي كان ينوي كتابة جزء آخر لهذا العمل، ففي المقدمة كتب أن هذه الأحداث الأولى -وهي فصل بسيط!- حدثت قبل  ١٣ عاماً وأثرت على البطلأليوشا، بينما الأحداث الثانية هي الأخطر شأناً لكن لا يمكن فهمها إلا عبر الأحداث الأولى. في الرواية كثير من الإشارات لأحداث أكثر، من ذلك ما قاله الشيخ زوسيما لإليوشا من أن آلاماً كبيرة تنتظره وأنه سيعيش الكثير قبل أن يعود مرةً أخرىإلى هنا، ولا أعرف هل المقصود بهنا هو الدير أو الإيمان.  للأسف أن الأجل لم يمهل دوستويفسكي لاستكمال هذه التحفة الأدبية وإلا لكان لدينا الآن جزءاً آخر أعظم . 




كُتب الكثير عن هذا العمل وسيُكتب كذلك. شخصياً استمعت جداً بقراءته، بل وأنهيته في وقت قياسي بالنسبة لي (أقل من ٢٠ يوم). لكن في العموم أنا لا أجد نفسي متمكنة من كتابة المراجعات النقدية المحكمة، لذلك أفضّل أن أقدم للقراء ما أنا متمكنة منه أكثر. هنا خارطة لشخصيات الرواية عملت عليها ما إن انتهيت من القراءة، استمتعت جداً بتصميمها ورسمها. أتمنى أن تفيد كل من ينوي قراءة  العمل أو يعيد قراءته. 


للتحميل بصيغة أوضح


نسخة PDF  بألوان أقل مناسبة للطباعة


(ملاحظة: بإمكانك استخدامه الخارطة بشكل شخصي أو مشاركتها مع أصدقائك مع الحفاظ على الحقوق، لكن لا يمكن استخدامها لأي أغراض تجارية)


* من كتابالتحليل النفسي والفنلسيغموند فرويد،  ترجمة سمير كرم، دار الطليعة - بيروت. 



x

صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب العُماني

  ثانياً: الأدب العُماني ثيمات تكررت في الأعمال العمانية:   حياة القرية، تاريخ عمان، العائلة، الاستعباد، الأمومة، الحروب المحلية، الغربة، ال...