Friday, June 18, 2021

كريستين لافرانسداتر



هناك كتب تقتنيها لأنها تُعتبر من روائع الأدب أو لاقت قبولاً حسناً بين القرّاء، وهناك كتب تقتنيها لأن موضوعها يهمك أو في تخصصك أو مؤلفها من كُتّابك المفضلين، وهناك كتب تقتنيها لأنك سمعت عنها ما أثار اهتمامك وفضولك، وهناك كتب تقتنيها لأنها بدت لك في المتجر جذابة والنبذة المكتوبة عنها جيدة بما فيه الكفاية. لكن أيضاً هناك مجموعة لا بأس بها من الكتب التي اقتنيتها لسبب مجهول؛ ربما عنوانها أو مؤلفها همسا لك بشكل خفي أنها يجب أن تكون عندك على الرف. ثلاثيةكريستين لافرانسداتركانت من الفئة الأخيرة، فأنا لم أسمع بها على الإطلاق قبل أن أراها معروضة في متجر ورّاق، أذكر أنني أضفتها لسلتي بكل تلقائية وبلا فضول وكأنها شيء كان من المفترض أن يكون في مكتبتي منذ زمن بعيد. منذ أول يوم وضعتها فيه على الرف عرفت أنه لن يطول بها الوقت موضوعة هناك بدون قراءة، وما أن بدأت في قراءتها حتى سحبتني بقوة لعالمها رغم زخم التفاصيل وثقل الأسماء. 


عن الرواية

ثلاثيةكريستين لافرانسداتر Kristin Lavransdatter“ تُعدّ ذروة الإنتاج الأدبي للكاتبة النرويجية سيغريد أوندست Sigrid Undest التي تلقت جائزة نوبل للأدب في عام 1928. الأجزاء الثلاثة صدرت بالنرويجية بشكل منفصل خلال ثلاثة أعوام وهي: 

  • إكليل العروس 1920 (Kransen / The Wreath) 
  • سيدة هوسابي 1921 (Husfrue / The Wife)
  • الصليب 1922 (Korset / The Cross) 

لاقى العمل شهرة وقبولاً واسعاً بين القرّاء أكثر من بقية أعمال أوندست وقد يكون هو العمل الذي ألقى الضوء عليها لتُرشح لجائزة نوبل. ترجم Charles Archer وJ.S. Scott العمل للإنجليزية في العشرينيات بترجمة تُعتبرثقيلةعلى القرّاء المعاصرين وقد يكون هذا السبب في أنه لم ينتشر كثيراً عند القراء بالإنجليزية حتى أعادت Tiina Nunnally ترجمته في نهاية القرن العشرين. صدرت الترجمة الأخيرة في كتاب واحد يتضمن الأجزاء الثلاثة من بينجوين في 2005 ويبدو أنه المفضل لدى غالبية القرّاء الذين شاهدت مراجعاتهم، لذلك لو أردت قراءة العمل بالإنجليزية فعليك بهذه النسخة:



أما النسخة العربية التي قرأتها فهي من إصدار دار المدى (1999-2000) وترجمة توفيق الأسدي، وهي ترجمة ممتازة عن الترجمة الأخيرة وتحوي جميع هوامش تينا ننالي المثرية للنص والتي ستساعد القارئ على فهم أسلوب الحياة في ذلك الزمن وكثير من قوانينه وتاريخ أحداثه. لكن يعيب النسخة العربية عدم إدراج الخريطتين الموجودتين في النسخة الإنجليزية رغم أنه أشير لهما في الترجمة العربية


كل النيران تخبو في النهاية

تنقلنا هذه الرواية إلى زمن القرون الوسطى وتذكرنا بقصص الفرسان الشجعان الذين يمتطون خيولهم وينقذون الحسناوات ويقعون في حبهن ثم يعيشون بسعادة حتى آخر العمر، لكن هنا تستمر الحكاية بعد زفاف العاشقين السعيدين. في هذا العمل نرى عدة ثيمات تتقاطع مع بعضها؛ الحب والشبق في مواجهة الواجب والشرف، النفس الورعة بمواجهة النفس التوّاقة للحياة والخطايا، الأمومة والأبوّة بشكليهما المعطاء بلا حدود والأناني اللامبالي. أجادت أوندست حبك الشخصيات الرئيسية للعمل وعرضتها للقارئ بكل واقعية، فالشخصيات هذه تعيش في كل زمان وكل مكان، والمواضيع التي تناولتها معاصرة بقدر ما هي قروسطية. 


أحداث العمل تدور حولكريستين لافرانسداترالتي عاشت في النرويج في القرن الرابع عشر، ونرافقها منذ أن كانت طفلة مرحة في عمر السابعة حتى وفاتها المحزنة في عمر الخمسين. كل جزء من الثلاثية يغطي مرحلة عمرية مختلفة من حياتها: 

  • إكليل العروس: كريستين الطفلة المتعلقة بوالدها، ثم المراهقة المتمردة حتى زواجها. 
  • سيدة هوسابي: كريستين الزوجة الجديدة والأم الخجلة، ثم سيدة الضيعة الشابة الصلبة والمتمسكة الشرسة بزوجها وأطفالها. 
  • الصليب: كريستين الأم القلقة والزوجة التي لا تغفر، ثم الورعة التائبة.

خارطة شخصيات الجزء الأول


كريستين
سليلة عائلة طيبة النسب والسمعة، كلا والديها ينحدران من عوائل معروفة ويمتلكون ضيعةيوروندغاردالريفية في وسط النرويج حيث ترعرعت وفيها تدور أحداث الجزئين الأول والثالث من الثلاثية. علاقة كريستين بوالدها لافرانس بيورغولفسون من أجمل العلاقات الأبوية التي قرأتها في عمل روائي، وشخصية لافرانس من أروع شخصيات الآباء في الأدب؛ لافرانس هو رجل المجتمع الورع الشريف الذي يحظى باحترام وحب فلاحيه وأنداده وكل من يعرفه عن جدارة واستحقاق. بينما كريستين ليست البطلة التي ستنال إعجاب القارئ بسهولة، بل ستثير حنقه واستغرابه من قسوتها تجاه من تحبهم كما قال لها أبوها ذات مرة:تكونين في أقسى حالاتك حيث يكون حبك في أقصى حالاته. كريستين فتاة مندفعة وعنيدة تتحول مع الوقت إلى امرأة صلبة وحكيمة تقيّة، عيبها الكبير أنها لا تصّفي قلبها من الشوائب التي تعلق به كلما أخطأ في حقها شخص تحبه، ولديها من العناد والكبرياء والتحسّر ما يمنعها من الاستمتاع بما تملك. لقد نشأت كطفلة مدللة لا يُرفض لها طلب ومحاطة بالحب والتفهّم والاعتزاز، وقد ورثت من والديها حُسن التدبير وإدارة الأملاك باحترافية ومعرفة تاريخ الأُسر والضمير الحيّ، فكان سلوكها وحسن إدارتها وتعاملها مع فلاحيها في ضيعةهوسابيبعد زواجها ما كان يكفي لتغيير رأي الناس عنها وغضّهم النظر عن طريقة زواجها -ولهذا تحديداً كانت تكدح كل يوم-. عبر فصول الرواية نستطيع رؤية أثر علاقة كريستين بوالدها وأثر القرار المصيري الذي اتخذته تحدياً لإرادته واتباعاً لنزوتها، فهذه العلاقة لم تكن مجرد فصل من حياتها انطوى ما أن خرجت من تحت جناحه، بل امتدت لتؤثر على ضميرها ومشاعرها وأسلوب تقييمها لمن حولها.


قد يصنّف البعض قصة الحب في الرواية كليشيه/مبتذلة كثرة ما تكررت قصة الفتاة المندفعة التي تعشق الشاب السيء وتترك الشاب الطيّب الذي يعشقها، لكن القصة هنا أكبر من ذلك. إرلند نيكولاوسون النبيل الوسيم الذي يفتقر للحكمة ويسهل انسياقه لرغباته يستحوذ على قلب كريستين -وأكثر- منذ اللقاء الأول، بينما سايمون دار الأقل وسامة لكن الأكثر شرفاً وشبهاً بأبوها لافرانس من ناحية شخصيته لم يجد مكاناً في قلب كريستين المأخوذ تماماً بإرلند، وسيبقى هذا الصراع العاطفي في حياة كل واحد من الثلاثة مستمراً حتى النهاية. كان من الرائع رؤية التغيرات التي مرت بها هذه الشخصيات الثلاث وعملية نضوجها عبر الأحداث، وكيف تتعقّد علاقاتهم وتتشابك ثم تنبسط مرة أخرى.


حين قابلته في شبابها كانت الحياة قد أضحت بالنسبة إليها نهراً سريعاً يندفع فوق الصخور والشلالات. في هذه السنوات في هوسابي انتشرت الحياة متسعة وهادئة كبحيرة، عاكسة كل ما يحيط بها.“



يتكرر خلال العمل وصف المشاهد الطبيعية وكأنك تنظر إلى صورة landscape خصبة، ودائماً ما يأتي هذا الوصف من زاوية رؤية مرتفعة، كأن تكون الشخصية فوق مكان مرتفع وتنظر للأرض المنبسطة أمامها. هذه المشاهد تعزّز الهوية النرويجية للعمل، حيث تصف الريف الممتد صيفاً وشتاءاً بجباله وأنهاره وبيوته، كما تجد الروائح وملمس الأرض والأصوات والألوان وكأن أوندست ترغب في حضور جميع حواسّ القارئ خلال جلوسه مع كريستين


ميزة هذا العمل الأهم بالنسبة لي هو أن الكاتبة أسبغت عليه الأمومة بسخاء، أمومة من وجهة نظر امرأة وأم. في كثير من الفصول كنت أرى أن العمل يدور حول الأمومة بشكل رئيسي، وبالطبع ثيمة الأمومة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع الأم العذراء في المذهب الكاثوليكي الذي يشكّل العمود الفقري لهذه الرواية. لقد كان هذا أول عمل أدبي أجد فيه وصف مخاض الولادة بكل هذه الدقة والواقعية، بدءاً من طول مدة المخاض الأول وتعقيده حتى اللحظة التي أمسكت فيها كريستين بالوليد. وتستمر أوندست في تضمين تفاصيل يعرفنها الأمهات بالتجربة مثل الصدر القاسي المتحجر قبل الرضاعة والطري بعد شبع الرضيع، الطفل المتعلق بأمه الذي قد يلعب بعيداً عنها لكنه يبدأ بالبكاء والتشبث بها ما أن يراها عادت، نظرة الأم لأطفالها في مراحل عمرهم المختلفة وحفظها لتفاصيلهم الصغيرة جداً عن ظهر قلب، الطفل الميت الذي يرافق الأم في أفكارها وفي مشاهدتها لبقية أطفالها ويكبر في خيالها مثلما يكبر البقية تماماً. أوندست وظّفت خبرتها وتجربتها كامرأة وأم في العمل بشكل واضح وهذا رفع من قيمته الإنسانية حسب رأيي. 


الفترة الزمنية للعمل تغطي حوالي خمسة وأربعين عاماً، لذلك سنعيش فيها دورة الحياة الكاملة بمسراتها وأحزانها وتقلباتها. سنرى كريستين في كل مرحلة من مراحل حياتها وهي تشاهد والدها بعين جديدة، لقد كان أوسم الرجال وهي طفلة، ثم بدأت تلاحظ الشيب والخطوط في وجهه عندما نضجت وتمردت، ثم كانت تراه يكبر في العمر ويتغير وينحني عندما صارت أماً مشغولة بحياتها. وكذلك أطفالها وهمومهم وقلقها عليهم الذي يتغير بتغير مراحل عمرهم. نرى كريستين وهي تستعيد مواقف عايشتها وأحاديث قيلت لها وهي طفلة ولم تدرك معناها إلا عندما كبرت. لا يوجد أي حشو في هذه الرواية حتى لو بدى للقارئ كثرة وصف المشاهد والحوارات، فكل موقف ومشهد وحوار وذكرى ستُستعاد في مرحلة أخرى من العمل. 
هذه العمل يتعدى قيمته الأدبية الروائية ليكون أيضاً شاهداً تاريخياً على حقبة قديمة بكل تفاصيلها المندثرة، أوندست لا تفرض على القارئ المعلومات التاريخية الدسمة وتفاصيل تلك الحقبة فرضاً، بل تجعله يكتشفها بانسيابية من خلال كريستين ومعها. لقد نقلت مشاهد تفصيلية كاملة عن أسلوب الحياة في القرن الرابع عشر في الضيع الريفية وبين عليّة القوم من ناحية الملابس وعمارة المنازل والكنائس والطعام والسلاح وثقافة المجتمع والقوانين السائدة وقوة تشبّث المسيحيين الكاثوليك بالدين في جميع نواحي حياتهم في ذلك الزمن. وعلى ذكر الكاثوليكية فإن الرواية تتمحور حول الدين وتنحاز له، فجميع الشخصيات متدينة بدرجات مختلفة، ولا نجد فيها أيّ تمرّد ضد الدين نفسه بل اقتراف خطايا ومعاصي يُتاب عنها. ومن الجدير بالذكر أن أوندست قد ترعرعت في كنف والدين ملحدين وكانت هي نفسها لا دينية لجزء كبير من حياتها، لكنها اعتنقت المذهب الكاثوليكي عام 1924 رغم أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للنرويج، ونتيجة لذلك فقد هوجمت من عامة النرويجيين ومن الطبقة المثقفة في النرويج الذين كان منهم شيوعيين واشتراكيين كُثر وقتها. 


تمثال كريستين لافرانسداتر في سيل


هناك الكثير مما يقوله العمل لنا، وأحدها أن اتباع القلب ومواجهة العالم لأجله لا يؤدي بالضرورة إلى درب السعادة الأبدي كما قد نعتقد، ربما يؤدي بالتابع العنيد إلى درب يظل يُذكّر نفسه خلاله كل مرة أن هذا كان قراره وحده وعليه احتمال تبعاته مهما حصل. 


روابط مفيدة

  • الأسماء النرويجية في القرون الوسطى كانت مركبة من اسم الأب ولا تعتمد اسم عائلة موحّد وتسمى هذه الطريقة في التسمية Patronymic Names.
  • خارطة النرويج مع أماكن المدن والضيع المذكورة في العمل:


  • صدر فيلم نرويجي في عام 1995 يصوّر الجزء الأول من الثلاثية، شاهدت منه مقاطع في يوتيوب ولم يعجبني اختيارهم للممثلين الكبار جداً على أدوار الأبطال في الجزء الأول.
  • مراجعة سلمى للعمل، وهي المراجعة الوحيدة التي وجدتها (فيها حرق للأحداث، قد تفضّل قراءتها بعد الانتهاء من قراءة الثلاثية). 


صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب العُماني

  ثانياً: الأدب العُماني ثيمات تكررت في الأعمال العمانية:   حياة القرية، تاريخ عمان، العائلة، الاستعباد، الأمومة، الحروب المحلية، الغربة، ال...