ثانياً: الأدب العُماني
1. تغريبة القافر - زهران القاسمي / 2022
اقتنيت الرواية بطلب خاص من صديقة لأقرأها وأخبرها عن رأيي فيها، وصادف أن أُعلن بعدها بيوم عن فوزها بجائزة البوكر مما شوّقني للبدء بها، كاسرةً بذلك عادتي في الامتناع عن قراءة الأعمال الأدبية وقت صدورها وفي عزّ ذروتها.
العمل يتمحور حول الماء والأرض ومجتمع القرية، وتفرّع من ذلك إلى الأساطير المنبثقة من الجهل (وبنوع من الاستحياء) إلى الظلم الطبقي وأكل الغني لمال الضعيف. قراءة العمل كانت تشبه مشاهدة الماء وهو ينساب بنعومة داخل فلج يتوسّط بستاني نخيل، فاللغة كانت سلسة شفافة منسابة بهدوء عبر الصفحات، لكن السرد كان به بعض الثغرات (ذاك الفلج كان معطوباً في بعض المواضع). هناك شخصيات أخذت مساحة واضحة مما جعلني أنتظر عودتها مع الاستمرار في القراءة لكنها اختفت مما أخلّ بتوازن العمل بالنسبة لي، كما أن الشخصيات الرئيسية لم تأخد حقها من الوصف، كانت الوجوه في خيالي ضبابية ودوافعها غير مفهومة. ذكرتني شخصية سالم القافر بشخصية غرونوي من رواية العطر، الذي كان لديه موهبة خارقة في الشم والتعرف على الروائح، وفي هذا العمل كان القافر يمتلك موهبة خارقة في السماع، وتحديداً سماع صوت الماء المتدفق في جوف الأرض بين الصخور والتراب، لكن لا أكثر من ذلك، شخصيته بقيت ضبابية. لا أمانع الفانتازيا في الأعمال الأدبية، بل أحبها وأقدّرها، لكن ظهورها ثم خفوتها يخلّ بنظرتي للعمل ككل، وهذا العمل يحاول أن يحمّل نفسه تفسيرات فانتازية بقدر ما يحمل من تفسيرات واقعية واضحة.
أعتبر هذا العمل بوابتي للدخول في عالم الأدب العماني، وأعترف أنه لا عذر لتأخري في دخول هذا العالم الذي لم أجد أي صعوبة ولا غربة خلال تجولي فيه، فالبيئة العمانية في هذا العمل قريبة من بيئتنا الإماراتية وبالأخص بيئة مدينة العين التي أنتمي لها، لذلك كانت أغلب المفردات المحلية المرتبطة بالأفلاج مألوفة عندي.في العموم العمل بسيط ومسلّي، لكن لا أراني سأخصصه بترشيح أو تمييز عن أعمال عمانية أو عربية أخرى.
2. جوع العسل - زهران القاسمي / 2017
يبدو لي أن زهران القاسمي قد أخذ على عاتقه مهمة توثيق بعض المهن المحليّة مثل حفر الأفلاج والقنص والبحث عن العسل البرّي لكن في إطارٍ أدبيّ روائي، وهو يأخذ هذه المهمة بشكل جادّ فيحرص على الإحاطة بأسرار وخبايا كل مهنة ويرتحل للبحث عن بيئة زاخرة بها، ثم ينسج حولها وفيها شخصيات وقصص. في هذا العمل يُدخلنا الكاتب لعالم النّحالين وتربية العسل والبحث عن خلايا العسل البريّ في الجبال والوديان، يأخذنا في رحلة مليئة بروائح الزهور البرية وسط الحياة الجبلية الطبيعية بكرمها وهدوئها ووعورتها وتمنّعها، وأمتعنا بوصف المناظر الطبيعية بالصوت والرائحة واللون والحرارة (وقد أكون اسمتعت بها لأنها مناظر مألوفة عندي ومرتبطة عندي برحلات الطفولة). القصة تدور حول ثلاثة أصدقاء هم عزّان وعبدالله وناصر، الذين ينطلقون في رحلة للبحث عن خلية عسل أعيّت النحّالين قبلهم تلك السنة، وخلال رحلتهم نتعرف على قصة كل واحد منهم.
هذا العمل في رأيي أفضل من تغريبة القافر من ناحية حبك الشخصيات وإعطاء مساحة جيّدة لكل منها، لكن ما يعيبه هو ترتيب السرد، وبعض الأحداث والمشاهد غير المنطقية؛ مثلاً مشهد السيدة التي خطبت خطبة طويلة في النساء النمّامات بأسلوب وعظي فصيح في البدء ثم انتقل في مواضع لأسلوب السارد العليم ثم عاد للوعظ مرة أخرى، كانت الخطبة أقوى من أن تلقيها امرأة متواضعة تعيش وسط قرية جبلية، كذلك ما حدث للفتاة التي عشقت عزّان من فقدان لعقلها، لم أفهم مغزى مصيرها هذا، مثلها مثل حدث وفاة والديّ عزّان في نفس الوقت، كما لاحظت أيضاً اختلاف اسم ابنة عبدالله في الموضعين الذي ذُكرت فيهما، وكأن العمل لم يُراجع بشكل جيّد قبل النشر.
3. سيّدات القمر - جوخة الحارثي / 2010
عندما تقرأ هذا العمل عليك أن تعامله معاملة العمل الفني، لا تبحث عن أبطال وحبكة تقليدية، اترك ذلك وتخيل نفسك أمام جدارية فسيفساء كبيرة تصوّر قرية عمانية تقليدية اسمها (العوافي)، تصوّر سكانها وبيوتها وطرقاتها ونخيلها وأشجارها.
قد يبدو للقارئ أن بطلي العمل هما عبدالله وزوجته ميّا، لكنهما مجرد نقطتي انطلاق لشخصيات عديدة أخرى مرتبطة بهما. وينطلق الخط الزمني من بداية الثمانينات الميلادية، ثم تنقلنا الكاتبة بسلاسة كل حين إلى ما قبل هذه الحقبة وإلى ما بعدها. كان السرد يتناوب بين أسلوبين عبر فصول العمل: الأول هو سرد راوي خارجي، والثاني سرد على لسان عبدالله. السرد الأول يرينا مشاهد حيّة لطقوس الزواج والنفاس في القرية العمانية في حقبة الثمانينات، بجانب أسلوب الحياة اليومي والقوانين المفروضة على البنات والأولاد في طفولتهم، ومشاعر الحب الأولى البريئة عند ميا وأختيها ومشاعر العشق المضطرم بين القمر البدوية وعزّان. أما السرد الثاني الذي يستأثر به عبدالله فهو يتنقّل بشكل مستمر بين مشاهد مختلفة تبعد بينها سنوات، وكأن الزمن فيها هلاميّ لا حدود له، وكانت الفصول الأولى لقصة عبدالله غاية في الاتقان، حيث كنا ندخل ونخرج من كل ذكرى لذكرى أخرى بانسيابية وبراعة، وفيها نرى طفولة عبدالله وهو يحاول فهمها، وأسلوب الحياة في بيت تاجر العبيد وقصص عبيده على رأسهم ظريفة مربية عبدالله، ومن ثم أسلوب حياته الحديث مع ميّا وعلاقته المميزة بابنته لندن وولديه. كانت النهاية على لسان عبدالله، كانت غامضة تشبه الحلم السريالي، ورغم أنها خيّبت أمل أغلب القراء إلا أنها متسقة تماماً مع شخصية عبدالله، ونهاية منطقية لحكايته كما كان يسردها.
الكاتبة لم تتقيد بزمان ومكان وشخصيات، نراها تنطلق بحرية في الزمن: الثمانينات وما حملته من بدايات النقلة الحضارية لسكان العوافي وضواحيها من البدو، الأربعينات بعد الحرب العالمية وما جرته من جوع وفقر، زمن حرب القبائل وما جرته من مآسي وتهجير، نهاية القرن التاسع عشر وانتعاش تجارة العبيد، التسعينات والألفين الأولى الميلادية وما فيها من تغيرات هائلة في تركيبة المجتمع وعقلية النساء وحدود حريتهن، وهذا كله في عمل صغير يمكن أن تنهيه في جلسة واحدة.
أفهم الآن لماذا فازت هذه الرواية بجائزة مان بوكر الدولية في 2019، فهي قدمت المجتمع العُماني بشكل جذّاب ومشوّق للقارئ غير العُماني، قدمت حكايات لا يمكن أن تحدث إلا هناك، بتلك التركيبة المميزة لعُمان وتاريخها وسكانها. الكاتبة أرادت تغطية مواضيع وقضايا عُمانية عديدة من خلال عملها، وهي محاولة جريئة، لكنني أرى أن جوخة الحارثي نجحت فيها بجدارة.
4. نارنجة - جوخة الحارثي / 2016
تشجعت للغاية لقراءة شيء جديد لجوخة الحارثي بعد سيدات القمر، وكانت توقعاتي عالية منها، لكن هذا العمل جاء دون الأول بكثير، ولولا شخصية الجدة لاعتبرت أن قراءته كانت مضيعة للوقت.
في هذا العمل أيضاً تنقِّلنا الكاتبة في الزمن كل سطرين أو بين فقرة وفقرة، لكن هذه المرة على لسان الشخصية الرئيسية في العمل (زهور)، التي تدرس في الخارج وسط خليط من الجنسيات المختلفة، وزهور ذات شخصية هشّة مضطربة تعيش حالة من النوستالجيا ممزوجة بالندم تجاه جدتها أو ربما الخوف من مصير مشابه لجدتها، ورغم أنه من الواضح أنها تدرس في لندن لكننا لا نعرف شيئاً عمّا تدرسه، فوجودها هناك وكأنه طيفيّ، فكل ما تفعله أنها تنام لتحلم بجدتها المتوفية ثم تستيقظ لتعيش على هامش علاقات الآخرين متلصصةً عليها، ولا أعرف كيف تستمر في تواجدها كطالبة هناك وهذا حالها. نلاحظ أن زهور تنجذب للشخصيات المضطربة مثلها، لذلك تدخل في تلك العلاقة الثلاثية الغريبة مع صديقتها كحل وزوجها عمران، التي من الواضح أنها دخيلة فيها لكنها تحاول أن تجعلها تبدو طبيعية وتبحث لها عن مسوّغ، فتارة ترى نفسها كحل وتعيش مشاعرها، وتارة تستعيد معاناة جدتها في معاناة عُمران.تسامحت مع شخصية زهور التعيسة والكئيبة فقط لأنها كانت مدخلاً لنتعرف على شخصية جدتها (بنت عامر)، وهي من الشخصيات التي سيرتبط بها القارئ بسهولة وستعلق في ذاكرته. الجدة لوحدها تمثّل حقبة كاملة من الجهل والظلم وقلة الحيلة، ورغم ما عانته في حياتها إلا أن بيت قريبها المتفضل عليها قد قام على أكتافها هي وحدها، بصلابتها وتفانيها ووفائها وعزة نفسها. لم تملك بنت عامر شيئاً يخصها قطّ، لا زوج ولا بيت ولا ولد ولا أرض، ولم تعطيها الحياة شيئاً، لكنها أعطت كل ما عندها من قوة وحنان وحب للبيت الذي آواها، حتى لم يبقى عندها شيء، فتُركت للإهمال.
العمل لغته شاعرية، لكن سرده ضعيف وفيه الكثير من الثغرات، ربما لأنه على لسان زهور (وهذا ليس مبرراً)، لذلك فاتني فهم مآل أغلب الشخصيات، وفاتني فهم مسوّغاتها ودوافعها، ولم أفهم رمزية أغلب الأحلام والهلوسات المكتوبة.
5. حرير الغزالة - جوخة الحارثي / 2021
تمنيت أن هذا العمل سيخفف من إحباطي بعد قراءة نارنجة، لكنه للأسف كان عادياً للغاية، بل إن نارنجة يتفوق عليه بسبب شخصية الجدة. حرير الغزالة هي قصة صديقتين: غزالة وحرير، والاثنتين مرتبطتان بصديقة ثالثة مشتركة بدون أن يعرفا هي آسية، أخت غزالة بالرضاعة، والحب الغامض لحرير. ويتناوب السرد بين سارد عليم يحكي قصة غزالة وعائلتها وماضيها وحياتها العاطفية التعيسة، وبين مذكرات متفرقة تكتبها حرير عن تعلقها الشديد بالفتاة الغريبة في سكن الجامعة (آسية) وعن حياتها وعائلتها بالطبع. قد تكون شخصية مليحة عمة غزالة هي أكثر شخصية تثير الاهتمام في العمل، والفصل الذي يتحدث عن تخطيطها لموتها هو أفضل فصل في العمل كله، كانت قصتها تستحق مساحة أكبر من حرير وغزالة اللتين نسيت قصتيهما في الدقيقة التي أغلقت فيها الكتاب، بل أنها كانت تصلح أن تكون بطلة العمل.
لاحظت أن ثيمة التيه في الزمن تتكرر في أعمال جوخة الحارثي، وكانت في أوجها في سيدات القمر، وفي أضعف حالاتها في حرير الغزالة، فهناك ما يشبه الثقب الذي يتسرب منه الزمن، تنتبه له الشخصيات وتتحدث عنه بشكل مباشر أو غير مباشر. لا أنكر أن جوخة الحارثي لغتها شاعرية للغاية، لكن الاستطراد في الشاعرية والتأمل في وسط السرد -بالنسبة لي- يُضعف الرواية.
6. الباغ - بشرى خلفان / 2016
هناك نوع من الألفة أستشعره تجاه السرد التقليدي، وأعني فيه سرد القصة التي يسردها علينا قاصّ من نقطة زمنية محددة وتتصاعد حتى نقطة زمنية أخرى، بدون تعب الذهاب والإياب في زمنين أو أكثر، قراءة هذا النوع من السرد مريح لأنه النوع الذي عرفنا منه القصص والحكايات منذ الطفولة، وهذا العمل ينتمي لهذا النوع من السرد.
يتناول العمل حقبة تاريخية مفصلية من تاريخ عُمان الحديث، وهي الحقبة الممتدة من بداية الخمسينات حتى بداية السبعينات، حيث كانت الفترة التي حدثت فيها ثورات وحروب داخلية بين القبائل والإمام والسلطان والانتداب البريطاني. على تلك الخلفية نتابع قصة ريّا، الفتاة التي خرجت مع أخيها راشد من بيتهم وأرضهم في الباطنة هرباً من ظُلم الأهل، وقررا الاستقرار في مسقط، فبدآ هناك حياةً جديدة، تزوجت ريّا وأنجبت ابنها الوحيد زاهر، فيما التحق أخوها راشد بجيش السلطان. هناك ثلاثة خطوط رئيسية في العمل: الخط الأول يتبع ريّا، ومن خلالها نشاهد أسلوب الحياة الاجتماعية في القرية العُمانية وكذلك في بعض بيوت مسقط المتواضعة منها والغنية، والخط الثاني يتبع راشد، ومعه نخوض حرب البريمي وحرب القبائل ومن ثم حرب ظفار، والخط الثالث يتبع زاهر، وعبره نتبع المسافرين خارج عُمان الباحثين عن إتمام دراستهم وعن أعمال ذات دخل جيّد، ومن هناك ينفتحون على القضايا العربية ويعودون بعقليات مختلفة. نشاهد العُمانيين في تلك الحقبة وهم متعطشين للعلم وتطوير بلدهم، ونراهم وهم يعانون بأسى من الغربة التي أُجبروا عليها بحثاً عن العلم والعمل،ونتلمس حسرتهم على بلدهم وعلى ما هي فيه من تأخر عن جاراتها.
العمل ركّز كثيراً على التغييرات التي تحدث في دواخل الشخصيات، لكن ليس للحد الذي يبرر بعض النقلات والقرارات السريعة التي اتخدتها (مثلما حدث مع زاهر)، وهو كذلك كان يبرر لأغلب الأطراف ويعطيها أعذاراً للثورة والحرب، حتى الجيش الأحمر المتطرف. في العموم العمل جميل، والقصة مشوّقة، لكن يعيبه الإطالة في المونولوجات الداخلية التي اجتّرت وكررت في كثير من الأحيان ذات المشاعر والأفكار.
7. دلشاد - بشرى خلفان / 2021
هذا العمل بديع! لم أستطع تركه من يدي حتى أنهيته في يوم واحد، ومتشوّقة للغاية لقراءة الجزء القادم من العمل كما وعدتنا الكاتبة في النهاية.
العمل يتتبع حياة أبطاله المنتمين إلى عدة خلفيات اجتماعية عبر عدة أجيال. نبدأ مع طفولة دلشاد (أي فرحان باللغة البلوشية) وهو عربي لقيط، ينشأ وسط عائلة بلوشية عطفت عليه وربتّه، وكبر وتزوج من فتاة بلوشية وأنجب ابنته الوحيدة مريم. ثم نتابع دلشاد وهو يربي ابنته وسط بيئة فقر مدقع، حيث يتسيّد الجوع والمرض على الجميع، ثم يقرر أن يسلمها لبيت تجار أغنياء مضطراً ليبعد عنها الجوع والعوز. دلشاد يعاني من الضحك القهري،وقد ورّثه لابنته مريم، فكانت تنتابهم نوبات ضحك هائلة عند احتدام مشاعرهم سواء حزناً أو قهراً أو سعادة. نجح العمل في عكس فقر البيئة التي نشأ فيها دلشاد، عبر وصف الروائح والطعام القليل والبيوت الهشة وهيئات الناس الرثّة ومقتنياتهم البسيطة للغاية وجهلهم شبه الكامل بأساسيات الدين. ثم عندما دخلت مريم بيت التجار استطعنا لمس التباين الواضح بين بيئة الفقراء وبيئة الأغنياء، من خلال تغيّر الرائحة ودخول التوابل وأصناف الطعام الجديدة والمتنوعة والثياب الزاهية وجرس الصيغة الفضية والحرص على التثقّف في الدين.
وجدت في العمل تطوراً واضحاً في أسلوب الكاتبة عن روايتها الأولى الباغ، فهذا العمل متماسك أكثر وشخصياته متنوعة أكثر ونستطيع لمس تغيرها وتطورها عبر الأحداث الممتدة لأجيال. اعتمدت الكاتبة أسلوب السرد على ألسنة الشخصيات، وأعتقد أنها أجادت تقمّص صوت كل شخصية، فمن الواضح تفاوت الوعي بين كل شخصية وأخرى حين نستمع إلى وجهات نظرهم وهم يسردون الحدث من جديد بأسلوبهم الخاص، مما أعطانا صورة بانورامية (إلى حدٍ ما) عن كل شخصية وكل حدث.