Sunday, July 9, 2023

صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب الكويتي


بعد شبه انقطاع لسنة ونصف عن قراءة الروايات قررت أن أخصص صيف هذا العام لقراءة الأدب الخليجي، وذلك لسببين: الأول حتى أُحدّث نظرتي للأعمال الروائية الخليجية الحديثة فأعرف أين وصلت إمكانيات الكُتّاب الخليجين وماهية المواضيع التي يتناولونها ولغتهم وأساليبهم السردية، ومن ناحية أخرى لأن هناك مجموعة روايات خليجية تراكمت على الرف بلا قراءة وأعلم أنني لن أختار أحدها بشكل عشوائي، فكان يجب أن أخصص لها خطة منفصلة. ما أن اتخدت القرار حتى بدأت في تحديد قائمة مبدئية لكل دولة ووضعت لنفسي معايير، فقد قررت أن أختار الأعمال التي: 

  1. نُشرت في العشر سنوات الأخيرة. 
  2. لكاتبها رصيد جيّد من الأعمال الأدبية الجادة.
  3. لاقت قبولاً جيداً عند القرّاء أو وصلت للقوائم المعروفة. 
  4. رُشحت لي من قرّاء أثق في رأيهم الأدبي.

أردت أن أقرأ لكل كاتب عملين أو أكثر، حتى أستطيع فهم أسلوبه وأرى تطوره الأدبي، لكن حيثما تعثّر ذلك اكتفيت بعمل واحد. وبعد أن أنتهي من كل عمل أكتب عنه مراجعة قصيرة، وهي التي أشاركها في مدونتي هذه، مع التنويه أن مراجعتي لكل عمل تعكس رأيي الشخصي كقارئة حرّة للأدب، فأنا لست ناقدة أدبية ومعرفتي البسيطة  بأساليب السرد كانت فقط من باب الاطلاع لتطوير فهمي وطريقتي في القراءة. 


أولاً: الأدب الكويتي



ثيمات تكررت في الأعمال الكويتية: 

العائلة، الغزو العراقي للكويت، الحرية السياسية، الصراع المذهبي، التفاوت الطبقي والقبلي، الحنين لحقبة الثمانينات والتسعينات، الصراع الداخلي، البطريركية الأبوية.


1. قاف قاتل سين سعيد - عبدالله البصيص / 2020

بقدر ما امتدح القرّاء الذين أتابعهم في تويتر هذا العمل بقدر ما ثار فضولي لقراءته وتقييمه بنفسي، محاولةً عزل تقييمي عن التأثر بالآراء المُحتفية بالعمل أو الانسياق وراء نزعة تحذلق حثتني على البحث عما يدحض كل ذلك الاعجاب والاحتفاء. 


العمل في رأيي يتمحور حول شخصيتين كلتيهما عالقتين، إحداهما عالقة في حدثٍ قديم (فهد)، والأخرى عالقة في شخصٍ رحل (ماجد)، وكلتا الشخصيتين تحاولان فهم الأحداث والمشاعر والحياة عن طريق الاجترار والتحليل والوصف كما علمهما (عادل). في حين أن عادل استطاع المضي قدماً في حياته وشُفي تقريباً عن طريق الكتابة، لكن تلميذيه فهد وماجد بقيا يدوران في فلكه؛ فهد مرت عليه أكثر من عشرين سنة وهو يعيش في جسد وفكر الصبي ذو الخمسة عشر عاماً الذي شاهد صديقه يختفي بشكل غامض ويعيد سرد ما حدث كما علمه عادل، وماجد مستمر في عيش حياة عمه عادل بكل تفاصيلها، فهو اختار ذات المهنة وعاش في نفس الغرفة واعتمد ذات النظرة للحياة. هناك خطين زمنيين تقريباً، الأول هو الوقت الحاضر وكان نصيبه حوالي ربع العمل، بينما أكثر من ثلاثة أرباع العمل تعود لحقبة ما بعد الغزو، وهي عبارة عن تفريغ لستة وثلاثين مقطعاً مصوراً لفهد يعيد فيها سرد ذكرياته بأدق التفاصيل وكأنه يصورها في فيلم سينمائي، ومن خلال هذه الذكريات ندخل عالم الأولاد المراهقين العنيف ونتعرف من خلال فهد على أفكارهم وصراعاتهم وعواطفهم. وقد أجاد القصيص حبك تلك الذكريات وسردها بشكل دقيق ومفصّل، كما أجاد تصوير الأماكن القديمة وأسلوب الحياة في كويت التسعينات.


من الصفحات الأولى أعجبتني رشاقة ودقة لغة الكاتب، وتلذذت بكثير من التراكيب ذات الوقع الشاعري، كما أن الكاتب عنده نفس طويل على الوصف التفصيلي للأماكن والأحداث، لكنه في رأيي بالغ في الوصف في كثير من المواضع، مثل وصفه لكل حركات فهد في المقاطع التصويرية: يتجشأ من أنفه مغلقاً فمه، تنزل الكاميرا على الأسفلت وتهتز، يعيد ظهره إلى الأريكة…إلخ، وهي تفاصيل لا تزيد ولا تنقص وإلغاءها أو اختصارها كان سيخفف من طول الصفحات المُجهدة التي تسرد الستة والثلاثين مقطعاً التي بدت لا نهائية برفقة صبية الفريج. لم تقنعني شخصية القتيل (سعيد جونكر) الذي وُصف بأنه مجنون أو خفيف العقل، لكنه حين تحدث عن ذكريات الغزو بالتفصيل المذكور بدا لي عاقلاً وطبيعياً، وشخصيته تحمل كثير من شخصية جون كوفي من فيلم (الميل الأخضر)، فهو ضخم الجثة ذو منظر مخيف لكن قلبه قلب عصفور، يعطف ويحب الحيوانات ويمنع الصبية من إيذاءها، افترضت في البداية أنه قد يكون مصاباً بالتوحد لكن بعد ذلك ارتبك تصوري له. أيضاً هناك ثغرة كبيرة في حياة فهد لم يغطها السرد، هل من المعقول أنه قضى العشرين سنة من بعد الحادثة حتى وقت تسجيله المقاطع يعيد اجترار وسرد ما حدث فقط؟


في العموم العمل ممتع ومشوّق، وقد توقعت كيف سترتبط الأحداث والشخصيات ببعضها منذ الثلث الأول تقريباً، والاستمرار في القراءة أكّد لي صحة توقعاتي، فقد كانت هناك كثير من التلميحات الذكية بين السطور. 


2. طعم الذئب - عبدالله البصيص / 2016

بالطبع سقف توقعاتي عالي من عبدالله البصيص بعد قراءة قاف قاتل سين سعيد، لكن هذه الرواية جاءت مختلفة تماماً، لا أقول أنها لم تكن بقدر التوقعات، لكنها مختلفة. أعجبني أن العمل يحمل روح عربية خالصة، فهناك الصحراء والمجتمع البدوي القاسي والحيوان المتكلم، ولو كانت مسرودة بشكل حكاية أو أسطورة لصلحت أن تكون إحدى قصص كليلة ودمنة أو ألف ليلة وليلة. 


شخصية بطل القصة ذيبان تهزّ نمطية صورة ابن الفارس الشجاع، لذلك كانت خيبة أمل أهله فيه كبيرة، وكان هو فوق ذلك غير مكترث بقوانين مجتمعه التي لا تعترف بالضعف والخوف، ونراه متقبلاً لنفسه يعيش حسب قناعاته بكل بساطة، حتى طرده أهله بعد أن أخزاهم ووجد نفسه وحيداً لأول مرة لا يعرف أين يتجه. الصراع في هذا العمل ليس صراع الإنسان مع الطبيعة، فالطبيعة الصحراوية هنا كانت في أكثر أشكالها وداعة: نهاية فصل الربيع حيث الحرارة لا زالت محتملة والسماء تجود بالمطر والأرض معشبة، الصراع هنا كان صراع الإنسان مع ذاته، الذات التي تحمل وجهين أحدهما حيوانيّ والآخر إنسانيّ. ذيبان في رحلة خزيه واجه ذئباً جائعاً، هذا الذئب اتخد شكلين: الحيوان الضاري، ثم الحيوان الناطق الحكيم، وكأن ذيبان كان في رحلة لداخل ذاته يواجه فيها جانبيها المتناقضين، لذلك كان طوال الوقت في شكّ مما يراه، ولا يعرف إن كان هلوسة أو واقعاً، وكانت نهاية العمل تحتمل تأويلات عديدة.


أعجبني وصف الطبيعة الصحراوية، والمواضع القليلة التي وُصفت فيها هيئة بعض الشخصيات. لم أقتنع بشخصية غالية، فشخصيتها تبدو غير متسقة مع الثقافة البدوية في نجد، ففتاة بكل هذه الجرأة الموصوفة لن تكون حلم شباب قبيلتها بل مصدر خزيهم. مشهد صراع ذيبان مع الذئب وهو بداخل الجحر كان صعباً عليّ، لم أستطع تخيله، وكنت أعيد قراءة المقاطع حتى أفهمه وأتصوّر المشهد والمعركة. أيضاً استثقلت كثرة المقاطع الحكيمة، التي تصلح للاقتباس أو التصوير، ولا أعرف سرّ حب الكُتاب الخليجين لهذه المقاطع.في العموم، رغم أن الرواية كانت تخلو من التشويق لكن كان من المسلّي الخوض في حكاية بدوية تحاول سبر الذات الإنسانية وتواجه فيها جانبها الحيوانيّ. 


3. تحت أقدام الأمهات - بثينة العيسى / 2014

بثينة العيسى ولغتها ومواضيعها كلها مألوفة عندي، فقد قرأت لها ثلاثة أعمال في العشر سنوات الماضية واستمتعت وأُعجبت بها، كما وضعتها في قائمة ترشيحات كتبي المفضلة، وهي: عائشة تنزل إلى العالم السفلي، كبرت ونسيت أن أنسى، خرائط التيه. وأعتبر بثينة العيسى من الأقلام الخليجية المميزة والتي تستحق أن يُحتفى بها ويُقرأ لها. 


ثيمة الأمومة موجودة دائماً في أعمال بثينة العيسى، لكن هذا العمل يتمحور حول الشكل المتطرّف للأمومة، أو البطريركية الأمومية. العمل يحكي قصة ست نسوة يعشن في منزل واحد، يدرن كلهن حول فلك الذكر الوحيد بينهن بقرار متعسّف من الجدة غيضة، التي تمثّل رأس الهرم والسلطة المطلقة داخل المنزل، وهي التي فرضت على باقي نساء البيت تأليه الحفيد الذكر، وفعلت كل ما يلزم لتضمن طاعتهن وخضوعهن لمشيئتها. تتناوب خمس نسوة في سرد القصة، بدون أن نسمع صوت الجدة أبداً، ولا نسمع صوت الحفيد سوى بشكل مهمّش قرب النهاية. ما أثار حيرتي اختيار الكاتبة لأسلوب السرد هذا ثم اعتمادها صوتها السردي الخاص للجميع، رغم أن الاختلاف الكبير بين الشخصيات يفرض اختلافاً وتفاوتاً في طريقة استيعاب وتحليل كل منهن لمحيطها وبالتالي اختلاف في الصوت السردي. حتى أن صوت مضاوي وفاطمة في طفولتهن هو ذاته عندما كبرن، وهو ذاته بالطبع عند أمهاتهن في كل زمن، ويبدو صوت الطفلتين ناضجاً بشكل استثنائي، مثلاً تقول مضاوي الطفلة: "كان فهاد هو الطفل الحزين الذي لما يتعرف حزنه بعد، اليتيم الذي لم يفهم وحشية يتمه بعد، الوحيد الذي لا يعرف بحقيقة وحدته لفرط ازدحام عالمه". كيف لطفلة أن تتوصل لهذا الإدراك الحسّاس المبكر؟ ولأن الشخصيات لم تجد مساحتها الخاصة لتفكر وتتحدث بصوتها الخاص نجد هناك تناقضات كثيرة فيها،مثلاً شخصية هيلة، من ناحية تؤمن بالكرامات والأولياء الصالحين وتتحدث عن فهاد كأنه نبيّ، وفي موضع آخر تحتج على حفلة عيد الميلاد لأنها (بدعة) بأسلوب صحوي يناقض إيمانها السابق. أما شخصية الحفيد فهاد فقد نالت النصيب الأكبر من التناقضات، في طفولته المبكرة يتمكن من تحريك الأشياء بتفكيره ثم يتحدث عن الخروج من جسده، بعد ذلك يبدي نزعة سادية تجاه الحيوانات، بعدها ينتقل لنزعة شذوذ جنسيّ في لعبه ولبسه، وعندما يراهق تغلب عليه النزعة السادّية فيقتل إنساناً، لكن يخرج من التأهيل بعد ذلك شخصاً سوياً تماماً يحب ويعشق ويعيش حياة طبيعية.الشخصية الوحيدة التي أعجبتني ووجدتها محبوكة بمهارة وواقعية رغم قسوتها هي شخصية الجدة غيضة، فهي تنتمي إلى جيل تشرّب القوة والقسوة منذ الطفولة، وكانت أفكارها متسقة مع البيئة التي تربت فيها، وأعرف أن كثير من نسوة جيلها يشبهنها في سيطرتها وجبروتها وقوة شخصيتها وقدرتها على التلاعب العاطفي. 


في العموم العمل جيّد، لكنه لم يعجبني كما أعجبتني أعمال الكاتبة السابقة، وجدته ثقيلاً يكتم على النفس. 


4. كل الأشياء - بثينة العيسى / 2017

كيف تطالب بإصلاح بلد بكامله وأنت لم تصلح حنفية ماء معطوبة ولا زجاج شرفة مكسور منذ عشرين عام في فناء منزلك؟ هذا أكثر تساؤل كان يدور في خلدي خلال قراءة هذه الرواية التي تتبع جاسم العظيمي بعد عودته من غياب أربع سنوات خارج الكويت كان فيها هارباً طوعاً، هارباً من بلده أو من أبيه، وقد يكونان ذات الشيء، ثم يضطر للعودة لحضور جنازة أبيه لثلاثة أيام فحسب يمثّل فيها الدور المطلوب منه ليعود لمنفاه الاختياري بعدها مباشرةً، لكن تسحبه البلد إلى البقاء أكثر. 


بما أن العمل اسمه كل الأشياء، وبما أن عبدالمحسن والد جاسم كان يمتهن تسمية الأشياء بمسمياتها في مقالاته، فلا يجب أن نغفل دلالة التسميات في العمل، جاسم وعبدالمحسن: أسماء كويتية تقليدية للغاية يحملان إرثاً عظيماً من أجدادهم، دانة: الحبيبة اللؤلؤة التي يبحث عنها كل غواص، لكن جاسم ضيعها وسيدندن باسمها دوماً بعد ضياعها، نايف: اسم بدويّ تقليدي، جزء أساسي من نسيج المجتمع الكويتي، المردم: الطير الذي يدخل البيت ويفشل في الخروج منه، هي التسمية التي أطلقها عبدالمحسن على ابنه جاسم، وكانت أعمق وصف يمكن أن يوُصف فيه، الصاجة: السجن الانفرادي، الذي يجعل حبيسه يواجه نفسه فيه بتجرّد، لن يجد سوى الصدق، لذلك كان اسم الأب هو أول ما صدح من داخله. 


كان السرد يتنقل بين مشاهد من خطين زمنيين: الوقت الحاليّ،وما حدث قبل أربع سنوات، وأعتقد أن مشاهد السجن هي الأضعف سردياً بين باقي المشاهد، وأفضلها هي مشاهد جاسم مع أهله.رغم بداية العمل غير الجذابة إلا أن النصف الثاني منه كان أفضل بكثير من الأول. أعجبني العمل في المجمل، فطريقة حبك الشخصيات والأحداث كانت متماسكة بشكل ممتاز، بالأخص شخصية جاسم، الذي كان شفافاً استطعت الرؤية من خلاله وفهم أفكاره ومنبع الصراع في داخله؛ صراعه مع نفسه ومع أبيه ومع عواطفه تجاه دانة. كنت أستطيع لمس هشاشته من خلال النصّ، كان يستمرّ في تكرار الفكرة التي يريد إقناع نفسه بها، يرفض أي منظور قد يهزّ منظوره الذي كان يرى منه لسنوات، يصرّ على تقليد والده في كل شيء لدرجة نكرانه لشبهه الكبير به،كان هارباً على الدوام، لذلك ستة شهور في السجن كانت قادرة على تفكيكه وتحطيمه، هو بالفعل (طفل سياسة) كما وصفه والده، من الداخل هو طفل يبحث عن إعجاب والده وينتظر منه دائماً كلمة تدلّ على حبه أو فخره به. 


5. فئران أمي حصة - سعود السنعوسي / 2015

أنا لم أقرأ (ساق البامبو)، لذلك أتعرف على سعود السنعوسي لأول مرة من خلال هذه الرواية التي تداولها المغردون في تويتر كثيراً في العام الذي صدرت فيه، فهي من جهة العمل الجديد للكاتب الذي أجمع كثيرون على حبهم لعمله الشهير الفائز بالبوكر، ومن جهة ثانية لأن العمل مُنع في الكويت وقت صدوره. وأنا حسب عادتي أترك الأعمال التي تحظى بجدل واسع لتبرد ويتجاوزها القراء، ثم أقرأها عندما لا يتحدث عنها أحد وتُنسى، وأعتقد أنني بذلك أعزل نفسي عن التأثر بآراء القراء المتحمسين. بدأت العمل بافتراض مسبق أنه عمل كويتي اجتماعي آخر، لكن من الصفحات الأولى تبدّت معالم عالم ديستوبيّ، استمر ذهني يستبعده باصرار لكنه انكشف بوضوح مع تعاقب الفصول، لم أتوقع أبداً وأنا أتناول العمل أن كاتبه يتخيل مستقبلاً سوداوياً بهذا القدر وبهذه الجرأة وبهذه البراعة! 


بمثل قتامة مستقبل جورج أوريل في 1984، يتخيل سعود السنعوسي مستقبل الكويت في 2020؛ مستسلمةً لحرب أهلية طائفية تحوّل أهلها إلى لاجئين خارج البلاد أو منكوبين داخلها، حيث ينشطر الشعب المنكوب بين تطرف طائفتين: السنة والشيعة، وفي وجه هذا الانشطار تحاول جماعة صغيرة تطلق على نفسها اسم (أولاد فؤادة) أن تعيد الكويتين لصوابهم ولوحدتهم القديمة عبر صوتهم في الإذاعة وعبر منشوراتهم في الانترنت. أولاد فؤادة هم أبطال العمل: فهد، صادق، أيوب، ضاوي، وخامسهم هو الراوي الذي تجنّب العمل ذكر اسمه، لكني أسميه مطر… (يجيب الله مطر)، وتسميه فوزية (كتكوت). وفي تجنب وضع اسم للراوي وتهميش عائلته مقابل ابراز عائلتي فهد وصادق، دلالة على محاولة تحييد الراوي مذهبياً واجتماعياً، رغم أنه من الواضح أنه سُنّي بدلالة ضاوي ابن خاله السني (المطوّع)، لكن أراد الكاتب أن يجعل الراوي محايداً مذهبياً ومليئاً بالتساؤلات تجاه هذا الصراع المذهبي الذي اكتشفه في طفولته ورفض الجميع أن يتحدثوا عنه علانية. كان دائماً هناك ال(نحن) وال(هم)، لكن من نحن ومن هم؟ لم يتمكن الراوي من معرفة ذلك في طفولته، وكان مدركاً أن صديقيه فهد وصادق يعرفان الإجابة، فهما يعرفان أكثر منه كما يقول.


يتناوب السرد بين زمنين: الزمن الراهن (2020) الذي كان على مدار 12 ساعة فقط تغطيه سحابة قاتمة سوداء مخيفة، زمن الطاعون، والزمن الماضي الذي يمتد 32  عاماً يسرد فيها الراوي ذكرياته بدءاً من 1985 حتى 2017، وفيه ترى الصدع وهو يتعمّق مع كل عام والسحابة تتشكل وتتكثّف، ويتوسّع الراوي في سرد ذكرياته خلال مرحلة الغزو، ويكرر ذكر السماء السوداء التي استمرت شهوراً بعد التحرير، إذاً سحابة القتامة كانت مخيمة على خطي السرد الاثنين، لم يتسلل منها نور إلا في مواضع قليلة جداً حيث الطقوس المحببة للجدة حصة وحكاياتها وحديثها،لكن تلك السحابة لا يأتي منها مطر. 


العمل مليء بالرمزيات، منها ما ذكره قراء آخرين مثل الفئران (الفتنة) التي لم يرها أحد لكنهم يرون مخلفاتها ويشمون رائحتها، ومثل مسلسل محظوظة ومبروكة، لكن هناك كذلك رمزيات عديدة أخرى، منها: 

  • النخلات الثلاث بنات كيفان: اخلاصة، سعمرانة، برحيّة، اللواتي نراهن في بداية العمل وقد ماتت اثنتان منهن والثالثة يابسة مع بشارة حياة خضراء في رأسها، وفي مصير تلك النخلات الثلاث نستشرف المصير المبهم للأصدقاء الثلاثة فهد وصادق والراوي. 
  • فوزية: الطفلة الراقصة بسعادة وفخر في أوبريت وطني قديم غنته الكويت عندما كان الوطن واحداً، نراها وهي تمرض بعد تفجيرات 1985 ثم يحلق لها رأسها في الغزو ثم يصيبها العمى، ثم تكبر ويصيبها البهاق والسمنة في زمن الحرب الأهلية، وكأن فوزية هي رمز للوحدة الوطنية الكويتية. 
  • الجدة حصة: رمز الأصالة الكويتية والإيمان الديني الفطري، بحكاياها المنسوجة من الذاكرة ومن البيئة المحلية، وطبيعتها المتقبلة للآخرين كلهم. 
  • الرائحة: رائحة الفتنة الحامضة المنتشرة في الجو، رائحة مطبق السمك، رائحة دهن العود، رائحة غرفة الجدة حصة، كل رائحة لها دلالتها في السياق.  

يقول سعود السنعوسي أنه كتب هذه الرواية لأنه خائف، وهذا الشعور هو الشعور الذي لازمني طوال القراءة، هناك خوف في كل فصل، في كل سطر وبين السطور، في الوجوه والملامح التي لم نتعرف إليها من خلال السرد لكننا نراها في خيالنا بملامح مموهة حزينة. غابت أي أحداث لطيفة أو جميلة من العمل، حتى الأحداث التي كان من المفترض أن تكون سعيدة غُلفت بغلاف كئيب وتبعتها أحداث حزينة، ويرافقك صوت عبدالكريم عبدالقادر (الصوت الجريح) طوال العمل، وكأن العمل لا يحمل من الحزن والجرح ما يكفيه. 


رغم حالة الثقل والكآبة التي أنهيت بها العمل، إلا أنه أعجبني، وأعتقد أن الكاتب نجح في إيصال خوفه للقارئ، رفع لوحة التحذير  عالياً بشجاعة وببراعة: احذروا الفتنة، فإن الفئران قادمة، والطاعون قادم.


6. حمام الدار: أحجية ابن أزرق - سعود السنعوسي / 2017

كقارئة حرة للكتب أنا لا أمتلك الأدوات النقدية الأدبية التي قد تعينني على فهم هذا النوع من التجريب الجرئ في الأدب، لكنني أظن أن السنعوسي قد أجاد حبك تجربته ونجح فيها، وسأتحدث هنا عن فهمي الخاص بالقصة، أو بالأحرى محاولتي لحل الأحجية.  


يفقد بطل القصة طفليه التوأم (زينة ورحّال) غرقاً في البحر ولا يستطيع إنقاذهما لأنه لا يجيد السباحة، يدخل بعد ذلك في حالة صدمة، أو حالة إنكار، ويحاول عقله حمايته بتغيير الأحداث وتلبيس الأشخاص جلداً جديداً، ما يسبب انفصام في شخصيته، كما أعتقد أنه كذلك يستسلم لحالة تيه وجوديّ وإيمانيّ. ما يجعل فقد الطفلين نقطة انهيار بالنسبة للبطل أن طفولته كانت قاسية مليئة بالفقد، سنكتشف أنه طفل لقيط،عندما علم أبوه بأمره (قد تكون أمه اغُتصبت من أحد العبيد) قرر أن يترك أمه ويأخذ إخوته الكبار  الأربعة وينتقل لمدينة أخرى عبر البحر، يبقى بطلنا الطفل وحيداً مع أمه التي تذوي حزناً على فراق أبنائها، ومعهما خادمة وابنتها تخدمانهم في المنزل. كان الأب يزورهم كل فترة، وأراد أن يعلم الطفل اللقيط السباحة بطريقة قاسية أشبه بمحاولة التخلص منه، لذلك كره البحر ولم يتعلم السباحة أبداً، ومن هذا نراه يسمّى والده (أزرق) لأنه يمثّل كل ما لا يحبه: فهو لون البحر الذي ابتلع إخوته وابتلع طفليه بعد ذلك، وهو لون السماء الذي لم يعرف لماذا لم تفعل أي شيء لتساعده، وهو لون الحقيقة، التي لا تداري مشاعره ولا تحفل لإنكاره.


يسرد البطل قصته مرتين، في كل مرة يتناوب السرد بين مشاهد من الحاضر ومشاهد من الماضي. المرتين تكونان على لسان شخصيتيه: عرزال (ينسب إليه النص اللقيط)، منوال (ينسب إليه النص النسيب)، يسمّي سرد الأول بالعهد القديم، ويسمّي سرد الثاني بالعهد الجديد، وبينهما ساعة تأمّل، فيها يرسل البطل رسولة لعرزال، هي شخصية من ماضيه ،تقول: (أنا هنا رسولة ممن كتبني؛ كاتبنا الذي وراء السقف، مانح الحياة الذي يرى كل شيء)، إذاً نرى أن البطل  قد تقمّص دور الخالق هنا، فهو يمنح الحياة ومتسامّي عن مخلوقاته ويرسل رسلاً، وسمّى قصتيه بالعهد القديم والعهد الجديد. قد يكون هذا التقمّص رغبةً منه في فهم القدر، أو رغبةً في تغيير الأحداث، وتغيير الشخصيات وتبسيطها، والوصول لنهاية جديدة سعيدة، أو رغبةً في إعادة إحياء زينة ورحال بأي شكل، وهنا نلاحظ اختياره للحمام ليكون الشكل الجديد لحياة الطفلين، فنحن كمسلمين نؤمن أن الأطفال الموتى هم طيور في الجنة، لكنه يريد أن يعيدهم على هيئة طيور هنا. كما نرى في النهاية هو لا يتمكن من إعادتهم، لأنه يبقى في دائرة مغلقة، يدور بين عرزال الذي ينتظر عودة الحمام (إخوته وأطفاله) وبين منوال الذي يعرف ماذا حدث له، ويدرك أنهم لن يعودوا، وهو يتنقل بين الاثنين عالقاً، لعشرين عاماً، يتكرر فيه هذا اليوم بدون توقف. 


أعتقد أن سعود السنعوسي قد أجاد حبك العمل، فكل مفردة وكل تفصيل كان في مكانه لهدفٍ ما. ورغم أنني لست من هواة هذا النوع التجريبي في الأدب، إلا أنني وجدت قراءته منعشة وتغيير احتجته وسط قراءاتي. 


7. الخط الأبيض من الليل - خالد النصرالله / 2021

أجبرت نفسي على إنهاء العمل إجباراً، وقد سبب ذلك لي صداعاً وانزعاجاً. أعرف أن الكتّاب في الكويت تشغلهم قضية الرقابة على الكتب، وأفهم أن هذا العمل هو محاولة أدبية للاعتراض، فهو يصوّر عالم شمولي تُباد فيه الكتب والمكتبات وتُلاحق فيه المطابع ويحاسب فيه الكاتب على المعنى والقصد وليس المفردات فحسب. لكن هذه الفكرة قد نوقشت كثيراً في أعمال أدبية  عديدة، بالأخص تلك التي صدرت في الحقبة الشيوعية، لذلك العمل لم يقدم أي جديد، وحتى القديم الذي قدمه لم يقدمه بشكل مشوّق، وحتى هذا التقديم غير المشوّق ينهك القارئ لكثرة ما طال وأمعن في التكرار والرتابة. 


كان يمكن لشخصية المدقق (بطل القصة) أن تحمل العمل على أكتافها، ففيها بوادر شخصية يمكن لها أن تعلق في ذهن القارئ لمدة طويلة، لكنها لم تتشكّل جيداً، وكأن الكاتب كان يقرر أن يعدّل فيها كل حين خلال الكتابة، فتاهت وتهنا معها. توجد في السرد ثغرات كثيرة، ويطول وصف أحداث صغيرة ليس لها معنى ضمن السياق، هناك فصول يمكن أن تُحذف بدون أن تتأثر القصة، التي كان يمكن أن تُقدّم في نصف الحجم هذا، أو تُقدّم على شكل قصة قصيرة وليس رواية. وقد حاولت أن أفهم دلالة الاسمين الوحيدين الذين قرر الكاتب أن يستخدمهما: زينة (حبيبة المدقق)، وعليوي (شخصية في رواية المدقق)، بينما جميع الشخصيات الأخرى كانت يشير لها بوظيفتها أو بلقب: المدقق، الروائية المغامرة، الروائي الفارس، المسؤول، الزميل، المهذب. لا توجد أحداث فعلية في القصة، ولا حبكة، والشخصيات مجرد أشخاص رماديين يعيشون في عالم رمادي ضبابي، لا تفهم دوافعهم ولا أهدافهم ولا مصيرهم. قد تكون الرواية التي يكتبها المدقق بداخل العمل (رغم أن حتى هذه لا تحقق شروط الرواية) مثيرة للاهتمام أكثر من العمل نفسه. 




No comments:

صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب العُماني

  ثانياً: الأدب العُماني ثيمات تكررت في الأعمال العمانية:   حياة القرية، تاريخ عمان، العائلة، الاستعباد، الأمومة، الحروب المحلية، الغربة، ال...