Sunday, December 5, 2021

الفارس الماهر النبيل دون كيخوته دلامنتشا


مراجعتي القصيرة هذه لا تستطيع التعبير عن مدى استمتاعي وحبي لرواية دون كيخوته، لأن الفارس النبيل الهمام دون كيخوته ورفيقه الوفيّ المخلص سنشو بنثا شخصيتان ستلازمان أي قارئ ما أن ينتهي من هذه الرواية. هل تعرفون ذلك الشعور عند تناول وجبة تفضلونها اعتدتم تناولها دوماً؟ أو مشاهدة فيلم تحبونه للمرة الخمسين؟ نعم ذلك الشعور بالراحة الذي تبعثه أشياء معينة مهما استهلكناها وحتى لو تركناها لمدة طويلة نعود لها ونشعر بنفس الطبطبة في كل مرة، أعتقد أن كتاب دون كيخوته سيكون بالنسبة لي أحدها. فقراءة مغامرات هذا الفارس النبيل بعثتّ فيّ نفس مشاعر المتعة والدهشة التي كانت تتناوبني عندما كنت أمسك بقصة جديدة في طفولتي، شعرت وكأنني ضغطت على زر”reset“ في مكان ما في عقلي، فعدت للانغماس في الحكاية والتعاطف بكل الحواسّ والضحك من القلب مع كل حدث ومغامرة، وكأنه كتابي الأول. 


في مقدمة دون كيخوته (الترجمة العربية الصادرة عن دار المدى) كتب عبدالرحمن بدوي مترجم العمل: روائع الأدب العالمي أربع: ”الإلياذةلهوميروس، والكوميديا الإلهيةلدانتي، ودون كيخوتهلثربانتس، وفاوستلجوته. والصفة السائدة في الأولى هي البطولة، وفي الثانية القداسة، وفي الثالثة التهكم، وفي الرابعة الإنسانية. وحسب استبيان أُجريَ في عام 2002 شارك فيه مئة كاتب من 54 دولة، نالَ "دون كيخوته" لقب أفضل كتاب في العالم، وقد كانت الأعمال الأدبية الأخرى المنافسة تتضمن شكسبير وتولستوي وهوميروس. 



من منا لا يعرف دون كيخوته*؟ لابد أن أغلبنا يعرفه، منا من شاهده كمسلسل كارتوني في الطفولة، ومنا من سمع أو قرأ اسمه مقترناً بالجنون الذي يحارب طواحين الهواء بلا طائل، لكن قلة قليلة الذين قرأوا الرواية، وربما اعتقدنا أننا لسنا بحاجة لقراءتها. لكن دون كيخوته ليس مجرد مجنون يعتقد نفسه فارساً، دون كيخوته موجود في كل زمان ومكان، فهو رمز للقيم السامية والمبادئ المثالية التي تفشل في مواجهة الواقع. وقصة فارس المنتشا الفريدة من نوعها تكمن عبقريتها في بساطة أسلوبها والشخصيات القريبة للقلب بظُرفها ورجاحة أفكارها وجنونها وخيالاتها، ومناسبتها لجميع الأعمار. رغم أنها كُتبت للسخرية من قصص الفروسية إلاّ أنها قدمت لنا الفارس الأخير، بل أشجع الفرسان الجوالة، الفارس الذي ولد متأخراً عن زمنه، ووجد نفسه في زمن كالح، لا فرسان فيه ولا قيم ولا أخلاق، وكان وحده في مواجهة كل هذا، فالكل يراه مجنوناً وهو وحده الذي يرى العالم معطوباً يحتاج للإصلاح**، وأخد على عاتقه مهمة حماية المستضعفين، ومعاقبة المجرمين، وتصحيح الأخطاء، والقضاء على الجرائم والفصل بين المنازعات والانتصاف للمظلومين. 


من المحزن أن ثربانتس مؤلف هذا العمل العظيم لم ينل التقدير الذي يستحقه في حياته، وعاش مهمشاً وفقيراً، وهذا ما جعله يحول خيباته إلى تهكم وسخرية لاذعتين في دون كيخوته: ”لم يجد خيراً من السخرية والتهكم يستعين بعما على احتمال الحياة، ولم يجد خيراً من عالم الفن القصصي ينتقم فيه لنفسه مما يلقاه من ظلم الناس ودنيا الناس“. خلال قراءتي ومع ملاحظة الأخطاء التي وقع فيها الكاتب في العمل كنت أشعر بالغضب منه؛ لماذا لم يولي العمل اهتماماً ومراجعة أكثر! لكن بعد أن انتهيت من القراءة واستوعبت العمل كله واستوعبت حياة كاتبه، بدأت أتفهّم لماذا لم تكن لديه رفاهية المراجعة والتدقيق في عمله، وشعرت أن هذه الهفوات والأخطاء السردية هي جزء من أصالة العمل ومعاناة كاتبه، وعلينا أن نتقبلها كما هيَ، فلا يوجد عمل كامل مهما بلغ من الروعة والمتعة. ومن الجدير ذكره وتقديره هو ترجمة عبدالرحمن بدوي الرائعة التي كانت بحجم العمل وزادت من متعة قراءته وأثرته بكل الهوامش والملاحظات التي لم تترك شاردة ولا واردة إلا وفصّلتها وذكرتها. 



_________________________

* البعض يكتبه وينطقه "دون كيشوت"، لكن عبدالرحمن بدوي كتبه "دون كيخوته" وهكذا ينطق بالإسبانية.

** لممدوح عدوان بحث تعقبه قصيدة بعنوان "نحن.. دون كيشوت" تستحق الاطلاع. 



No comments:

صيفية مع الأدب الخليجي - الأدب العُماني

  ثانياً: الأدب العُماني ثيمات تكررت في الأعمال العمانية:   حياة القرية، تاريخ عمان، العائلة، الاستعباد، الأمومة، الحروب المحلية، الغربة، ال...